كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

فصل من كلام شيخنا المفيد رضي الله تعالى عنه في الإرادة.

قال الإرادة من الله جل اسمه نفس الفعل ومن الخلق الضمير وأشباهه مما لا يجوز إلا على ذوي الحاجة والنقص.

وذاك أن العقول شاهدة بأن القصد لا يكون إلا بقلب كما لا تكون الشهوة والمحبة إلا لذي قلب ولا تصح النية والضمير والعزم إلا على ذي خاطر يصور معها في الفعل الذي تغلب عليه الإرادة له والنية فيه والعزم. ولما كان الله تعالى يجل عن الحاجات ويستحيل عليه الوصف بالجوارح والآلات ولا يجوز عليه الدواعي والخطرات بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى التصور والعزمات وثبت أن وصفه بالإرادة مخالف في معناه لوصف العباد وأنها نفس فعله الأشياء وإطلاق الوصف بها عليه مأخوذ من جهة الاتباع دون القياس وبذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى ع.

قال شيخنا المفيد رحمه‌الله :

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه (٣) عن محمد بن يعقوب الكليني عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال :

قلت لأبي الحسن عليه السلام (٤) :

أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق.

فقال الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم من الفعل والإرادة من الله تعالى إحداثه الفعل لا غير ذلك لأنه جل اسمه لا يهم ولا يتفكر. (٥)

_________________

(١) في الأصل وإن بها نفس فعله ، وصوبناه لما ذكرناه اعتمادا على ما سيأتي.

(٢) يعني به السماع.

(٣) من علماء الإماميّة المحدثين الثقات وهو أستاذ الشيخ المفيد ، له مؤلّفات منها (كامل الزيارات) توفي عام ٣٦٨ أو ٣٦٧ ه.

(٤) هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام المتوفّى سنة ١ ٨٣ ه وقيل بل ١ ٨٦ ه.

(٥) روى الصدوق المتوفي عام ٣٨١ ه هذا الحديث في كتابه «التوحيد» مع تغيير في بعض ألفاظه لا تؤثر في روح الحديث.

٨١

قال شيخنا المفيد رحمه‌الله :

وهذا نص من مولانا عليه السلام على اختياري في وصف الله تعالى بالإرادة وفيه نص على مذهب لي آخر منها وهو أن إرادة العبد تكون قبل فعله وإلى هذا ذهب البلخي.

والقول في تقدم الإرادة للمراد كالقول في تقدم القدرة للفعل وقول الإمام عليه السلام في الخبر المقدم إن الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم من الفعل صريح في وجوب تقدمها للفعل إذ كان الفعل يبدو من العبد بعدها ولو كان الأمر فيها على مذهب الجبائي لكان الفعل باديا في حالها ولم يتأخر بدوة إلى الحال التي هي بعدها لها.

فصل

اعلم أنا نذهب إلى أن الإرادة تتقدم المراد كتقدم القدرة للمقدور غير أن الإرادة موجبة للمراد والقدرة غير موجبة للمقدور والإرادة مما لا يصح أن يفعل الشيء فضده بدلا منه والجميع أعراض لا يصح بقاؤها.

فصل من القول في أن الإرادة موجبة :

هو أن الحي متى فعل الإرادة لشيء وجب وجود ذلك الشيء إلا أن يمنعه منه غيره فأما أن يمتنع هو من مراده فلا يصح ذلك.

ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أنه قد ثبت تقدم الإرادة على المراد لاستحالة أن يريد الإنسان ما هو فاعل له في حال فعله فيكون مريدا للموجود كما يستحيل أن يقدر على الموجود وإذا ثبت أن الإرادة متقدمة للمراد لم يخل أمر المريد لحركة يده من أن يكون واجبا وجودها عقيب الإرادة بلا فصل أو كان يجوز عدم الحركة فلو جاز ذلك لم يعدم إلا بوجود السكون منه بدلا منها.

ولو فعل السكون في الثاني من حال إرادته للحركة لم يخل من أن يكون

_________________

(١) هو أبو القاسم البلخيّ وتقدمت ترجمته.

(٢) في النسخة والجمع.

(٣) في النسخة كلمة (لا) بعد (هو) وهو غير واضح ولعلها زائدة

٨٢

فعله بإرادته له أو سهو عنه ومحال أن يفعله بإرادة لأن ذلك موجب لاجتماع إرادتي الحركة والسكون لشيء واحد في حالة واحدة ومحال وجود السكون في حال إرادته الحركة فيبطل جواز امتناع الإنسان مما قد فعل الإرادة له على ما شرحناه.

مسألة إن قال قائل إذا كنتم تقولون إن إرادة الله تعالى لفعله هي نفس ذلك الفعل ولا تثبتون له إرادة غير المراد فما معنى قولكم أراد الله بهذا الخبر كذا ولم يرد كذا وأراد العموم ولم يرد الخصوص وأراد الخصوص ولم يرد العموم؟

جواب قيل له معنى ذلك أن في المقدور أخبارا كثيرة عن أشياء مختلفة فقولنا أراد كذا ولم يرد كذا فهو أنه فعل الخير الذي هو عن كذا ولم يفعل الخير الذي هو عن كذا وفعل القول الذي يفهم منه كذا ولم يفعل القول الذي يفهم منه كذا. وهذا كقولنا إنا إذا قلنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وأردنا القول كان ذلك قرآنا وإذا أردنا أن يكون منا شكر لله تعالى كان كذلك. فإنا لسنا نريد أن قولا واحدا ينقلب بإرادتنا قرآنا إن جعلناه قرآنا ويكون كلامنا إن جعلناه لنا كلاما وإنما معناه أن في مقدورنا كلامين نفعل هذا مرة وهذا مرة. فإن قال فكان من قولكم إن (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إذا أردتم به القرآن يكون مقدورا لكم. قلنا هذا كلام في الحكاية والمحكي وله باب يختص به وسنورد إن شاء الله تعالى طرفا منه.

فصل فأما إرادة الله تعالى لأفعال خلقه فهي أمره لهم بالأفعال ووصفنا له بأنه يريد منهم كذا إنما هو استعارة ومجاز وكذلك كل من وصف بأنه مريد

_________________

(١) في النسخة (ولم يفهم) وهي خطأ من الناسخ والصواب ما ذكرناه.

٨٣

لما ليس من فعله تعالى بطريق الاستعارة والمجاز وقول القائل يريد مني فلان المصير إليه أنما معناه أنه يأمرني بذلك ويأخذني به وأرادني فلان على كذا أي أمرني به فقولنا : إن الله يريد من عباده الطاعة أنما معناه أنه يأمرهم بها. وقد تعبر بالإرادة عن التمني والشهوة مجازا واتساعا فيقول الإنسان أنا أريد أن يكون كذا أي أتمناه وهذا الذي كنت أريد أن يكون كذا أي أتمناه وهذا الذي كنت أريده أي أشتهيه وتميل نفسي إليه.

والاستعارات في الإرادات كثيرة فأما كراهة الله تعالى للشيء فهو نهيه عنه وذلك مجاز كالإرادة فأعلمه.

القول في الغضب والرضا

وهاتان صفتان لا تصح حقيقتهما إلا في المخلوق لأن الغضب هو نفور الطباع والرضا ميلها وسكون النفس ووصف الله تعالى بالغضب والرضا أنما هو مجاز والمراد بذلك ثوابه وعقابه فرضاه وجود ثوابه وغضبه وجود عقابه (١) فإذا قلنا رضي الله عنه فإنما نعني أثابه الله تعالى وإذا قلنا غضب الله عليه فإنما نريد عاقبه الله فإذا علق الغضب والرضا بأفعال العبد فالمراد بهما الأمر والنهي نقول إن الله يرضى الطاعة بمعنى يأمر بها ويغضب من المعصية بمعنى ينهى عنها.

القول في الحب والبغض

وهاتان الصفتان أنما يوصف الله تعالى بها مجازا لأن المحبة في الحقيقة ارتياح النفس إلى المحبوب والبغض ضد ذلك من الأوزاع والتنفر الذي لا يجوز على القديم فإذا قلنا إن الله عزوجل يحب المؤمن ويبغض الكافر فإنما نريد بذلك أنه ينعم على المؤمن ويعذب الكافر وإذا قلنا إنه يحب من عباده

_________________

(١) وبهذا المعنى وردت عدة أحاديث منها ما في حديث هشام بن الحكم عن الصادق (عليهم السلام) : قال (عليهم السلام) من حديثه : فرضاه ثوابه ، وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال ، التوحيد للصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦٠).

٨٤

الطاعة ويبغض منهم المعصية جرى ذلك مجرى الأمر والنهي أيضا على المعنى الذي قدمنا في الغضب والرضا.

القول في سميع وبصير

اعلم أن السميع في الحقيقة هو مدرك الأصوات بحاسة سمعه والبصير هو مدرك المبصرات بحاسة بصره وهاتان صفتان لا يقال حقيقتهما في الله تعالى لأنه يدرك جميع المدركات بغير حواس ولا آلات فقولنا إنه سميع أنما معناه لا تخفى عليه المسموعات وقولنا بصير معناه أنه لا يغيب عنه شيء من المبصرات وأنه يعلم الأشياء على حقائقها بنفسه لا بسمع وبصر ولا بمعان زائدة على معنى العلم.

وقد جاءت الآثار عن الأئمة عليهم السلام بما يؤكد ما ذكرناه.

قال المفيد رضوان الله عليه

أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن محمد بن عيسى عن حماد بن حريز عن محمد بن مسلم الثقفي قال قلت لأبي جعفر الباقر عليهم السلام إن قوما من أهل العراق يزعمون أن الله تعالى سميع بصير كما يعقلونه قال فقال الله تعالى إنما يعقل ذلك فيما كان بصفة المخلوق وليس الله تعالى كذلك.

وبإسناده عن محمد بن يعقوب عن علي بن محمد مرسلا عن الرضا عليهم السلام أنه قال في كلام له في التوحيد وصفة الله تعالى كذلك بأنه سميع أخبار بأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأصوات وليس على معنى تسميتنا بذلك وكذلك قولنا بصير فقد جمعنا الاسم واختلف فينا المعنى وقولنا أيضا مدرك وراء لا يتعدى به معنى عالم فقولنا راء معناه عالم بجميع المرئيات وقولنا مدرك معناه عالم بجميع المدركات فهذه صفات المجازات والحمد لله.

القول في الخالق

اعلم أن حقيقة الخالق في لغة العرب هو المقدر للشيء قبل فعل المروي

٨٥

المفكر فيه قال زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. (١)

ولأنت تفري ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وقال الحجاج بن يوسف (٢)

إني لا أعد إلا وفيت ولا أخلق إلا فريت.

والشواهد في هذا كثيرة.

وإذا كان هذا حقيقة الخالق أعلم أن وصف الله تعالى به اتساع وتجوز والمراد به فاعل لأن الله تعالى لا يصح أن يقدر بروي وتفكر.

فصل في صفة أهل الإيمان

في كتاب المحاسن للبرقي (٣) قال مر أمير المؤمنين عليهم السلام بمجلس من مجالس قريش فإذا هو بقوم بيض ثيابهم صافية ألوانهم كثير ضحكهم يشيرون بأصابعهم إلى من مر بهم ثم مر بمجلس للأوس والخزرج فإذا هو بقوم بليت منهم الأبدان ورقت منهم الرقاب واصفرت منهم الألوان قد تواضعوا بالكلام فتعجب أمير المؤمنين عليهم السلام من ذلك ودخل على رسول الله

_________________

(١) زهير بن أبي سلمى من الشعراء الجاهليين المتقدمين ومن أصحاب المعلقات المعروفة ، وهو صاحب المعلقة التي أولها :

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

وهو ممن كان يتأله في شعره من الجاهليين ، ويكاد يكون مدحه وقفا على هرم بن سنان المري ، والبيت الذي استشهد به المؤلّف هو من قصيدة أولها :

لمن الديار بقنّة الحجر

أقوين من حجج ومن شهر

وتوفي عام ١٤ قبل الهجرة وعام ٦٠٨ م

(٢) هو من أعاظم رجال الأمويين وقوادهم ، ومن جبابرة القواد وطغاتهم ولولاه لأنهار ملك بني مروان ، ولما قامت لهم قائمة ، توفي بواسط المدينة التي بناها سنة ٨٣ ه وكانت وفاته سنة (٩٥ ه) و ٧١ ٣ م.

(٣) هو أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي القمّيّ توفّي سنة (٢٧٤ ه) أو (٢٨٠ ه) من أعلام الإماميّة في الآثار والأحاديث ، وكتابه المحاسن يحتوي على ثمانين كتابا وله سواه كتب عديدة.

٨٦

ص فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله مررت بمجلس لآل فلان ثم وصفهم ثم قال وجميع مؤمنون فأخبرني يا رسول الله بصفة المؤمن فنكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه ثم رفعه فقال :

عشرون خصلة في المؤمن من لم تكن فيه لم يكمل إيمانه إن من أخلاق المؤمن يا علي الحاضرون الصلاة والسارعون إلى الزكاة والمطعمون المساكين والماسحون رأس اليتيم والمطهرون أظفارهم والمتزرون على أوساطهم الذين إن حدثوا لم يكذبوا وإن وعدوا لم يخلفوا وإن تمنوا لم يخونوا وإن تكلموا صدقوا رهبان بالليل أسد بالنهار صائمون النهار قائمون الليل لا يؤذون جارا ولا يتأذى بهم جار الذين مشيهم (عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وخطاهم إلى المساجد وإلى بيوت الأرامل وعلى أثر المقابر جعلنا الله وإياكم المتقين.

أخبرني أبو الرجاء محمد بن علي بن طالب البلدي قال أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني الكوفي (١) قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن حجاب الأزدي بالكوفة قال حدثني خالد بن يزيد بن محمد الثقفي قال حدثني أبي خالد قال حدثني حنان بن سدير عن أبيه عن محمد بن علي عن أبيه عن جده قال قال علي عليهم السلام لمولاه نوف الشامي وهو معه في السطع (٢)

_________________

(١) ينتهي نسبه إلى ذهل بن شيباني أصله من الكوفة ، قضى عمره في طلب الحديث توفّي سنة ٣٨٧ ه قال النجاشيّ عنه : كان في أول أمره ثبتا ثمّ خلط ورأيت جل أصحابنا يغمزونه ويضعفونه ، ويكثر محمّد بن علي الحزاز في كتابه كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر ، الرواية عنه ، وكذا الصدوق وخاصّة في كتابه كمال الدين وتمام النعمة. وللشيباني مؤلّفات منها مزار أمير المؤمنين (عليهم السلام) وكتاب مزار الحسين (عليهم السلام) وكتاب من روى حديث غدير خم.

(٢) لعله السطح لكن في النهج قال : وقد خرج ذات ليلة وهو ينظر إلى النجوم وهذا الحديث مروي في النهج وفي أمالي المفيد صلى الله عليه وآله وسلم ٧٨ وفي تاريخ بغداد للخطيب م ٧ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦٢ وفي مروج =

٨٧

يا نوف أرامق أم نبهان قال نبهان أرمقك يا أمير المؤمنين قال هل تدري من شيعتي قال لا والله قال شيعتي الذبل الشفاه الخمص البطون الذين تعرف الرهبانية والربانية في وجوههم رهبان بالليل أسد بالنهار الذين إذا جنهم الليل اتزروا على أوساطهم وارتدوا على أطرافهم وصفوا أقدامهم وافترشوا جباههم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم وأما النهار فحلماء علماء كرام نجباء أبرار أتقياء يا نوف شيعتي الذين اتخذوا الأرض بساطا والماء طيبا والقرآن شعارا إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا شيعتي من لم يهر هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب ولم يسأل الناس ولو مات جوعا إن رأى مؤمنا أكرمه وإن رأى فاسقا هجره هؤلاء والله يا نوف شيعتي شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة وحوائجهم خفيفة وأنفسهم عفيفة اختلفت بهم الأبدان ولم تختلف قلوبهم قال قلت يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أين أطلب هؤلاء فقال لي في أطراف الأرض يا نوف يجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة آخذا بحجزة ربه جلت أسماؤه يعني يحمل الدين وحجزة الدين وأنا آخذ بحجزته وأهل بيتي آخذون بحجزتي وشيعتنا آخذون بحجزتنا فإلى أين إلى الجنة ورب الكعبة قالها ثلاثا.

وأخبرني أيضا أبو الرجاء محمد بن علي بن طالب الرازي قال أخبرني أبو المفضل محمد بن عبد الله بن محمد بن المطلب الشيباني قال حدثني أبو عبد الله جعفر بن محمد بن جعفر العلوي الحسني قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى الوابشي قال حدثني عاصم بن حميد الخياط.

قال أبو المفضل الشيباني وحدثنا محمد بن علي بن أحمد بن عامر البندار

_________________

= الذهب ج ٤ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٩٣ وفي حلية الأولياء ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٧٩ ، وفي الخصال للصدوق القمّيّ ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٩٩. ونوف هو نوف البكالي والراوي عنه هو أبو عبد اللّه الشاميّ كما في معجم رجال الحديث ج ١ ٩ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٢٧.

٨٨

بالكوفة من أصل كتابه وهذا الحديث بلفظه وهو أتم سياقه قال حدثنا الحسن بن علي بن بزيع قال حدثنا مالك بن إبراهيم بن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن رجل من قومه يعني يحيى ابن أم الطويل أنه أخبره عن نوف البكالي قال عرضت لي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام حاجة فاستبعثت إليه جندب بن زهير والربيع بن خيثم وابن أخيه همام بن عبادة بن خيثم وكان من أصحاب البرانس فأقبلنا معتمدين لقاء أمير المؤمنين عليهم السلام فألفيناه حين خرج يؤم المسجد فأفضى ونحن معه إلى نفر متدينين قد أفاضوا في الأحدوثات تفكها وبعضهم يلهي بعضا فلما أشرف لهم أمير المؤمنين عليهم السلام أسرعوا إليه قياما فسلموا ورد التحية ثم قال من القوم فقالوا أناس من شيعتك يا أمير المؤمنين فقال لهم حبا

ثم قال يا هؤلاء ما لي لا أرى فيكم شيمة شيعتنا وحلية أحبتنا أهل البيت؟

فأمسك القوم حياء قال نوف فأقبل عليه جندب والربيع فقالا ما سمة شيعتكم وصفتهم يا أمير المؤمنين فتثاقل عن جوابهما فقال اتقيا الله أيها الرجلان وأحسنا (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) النحل ١١٨.

فقال همام بن عبادة وكان عابدا مجتهدا :

أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم وفضلكم تفضيلا إلا أنبأتنا بصفة شيعتكم فقال لا تقسم فسأنبئكم جميعا.

وأخذ بيد همام فدخل المسجد فسبح ركعتين وأوجزهما وأكملهما ثم جلس وأقبل علينا وحف القوم به فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :

أما بعد فإن الله جل شأنه وتقدست أسماؤه خلق خلقه فألزمهم عبادته وكلفهم طاعته وقسم بينهم معايشهم ووضعهم في الدنيا بحيث وضعهم ووصفهم في الدين بحيث وصفهم وهو في ذلك غني عنهم لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه منهم لكنه تعالى علم قصورهم عما يصلح

٨٩

عليه شئونهم ويستقيم به أودهم وهم في عاجلهم وآجلهم فأدبهم بإذنه في أمره ونهيه فأمرهم تخييرا وكلفهم يسيرا وأماز سبحانه بعدل حكمه وحكمته بين الموجف من أنامه إلى مرضاته ومحبته وبين المبطئ عنها والمستظهر على نعمته منهم بمعصيته فذلك قول الله عزوجل (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

ثم وضع أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم يده على منكب همام بن عبادة فقال ألا من سأل من شيعة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيه تطهيرا فهم العارفون بالله العاملون بأمر الله أهل الفضائل والفواضل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع وبخعوا لله بطاعته وخضعوا له بعبادته فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم واقفين أسماعهم على العلم بدينهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذين نزلت منهم في الرخاء رضي عن الله بالقضاء فلو لا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى لقاء الله والثواب خوفا من العقاب عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها متكئون وهم والنار كمن دخلها فهم فيها يعذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحوائجهم خفيفة وأنفسهم عفيفة ومعرفتهم في الإسلام عظيمة صبروا أياما قليلة فأعقبتهم راحة طويلة وتجارة مربحة يسرها لهم رب كريم أناس أكياس أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وطلبتهم فأعجزوها.

أما الليل فصافون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا يعظون أنفسهم بأمثاله ويستشفون لدائهم بدوائه تارة وتارة يفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم ويمجدون جبارا عظيما ويجأرون إليه جل جلاله في فكاك رقابهم هذا ليلهم فأما نهارهم فحلماء علماء بررة أتقياء برأهم خوف بارئهم فهم أمثال القداح يحسبهم الناظر إليهم مرضى وما بالقوم من مرض أو خولطوا وقد خالط القوم من عظمة ربهم

٩٠

وشدة سلطانه أمر عظيم طاشت له قلوبهم وذهلت منه عقولهم فإذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية لا يرضون بالقليل ولا يستكثرون له الجزيل فهم منهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إن ذكر أحدهم خاف مما يقولون وقال أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون فإنك علام الغيوب وساتر العيوب هذا ومن علامة أحدهم أن ترى له قوة في دين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا على علم وفهما في فقه وعلما في حلم وكيسا في رفق وقصدا في غنى وتحملا في فاقة وصبرا في شدة وخشوعا في عبادة ورحمة للمجهود وإعطاء في حق ورفقا في كسب وطلبا في حلال وتعففا في طمع وطمعا في غير طبع أي دنس ونشاطا في هدى واعتصاما في شهوة وبرا في استقامة لا يغيره ما جهله ولا يدع إحصاء ما عمله يستبطئ نفسه في العمل وهو من صالح عمله على وجل يصبح وشغله الذكر ويمسي وهمه الشكر يبيت حذرا من سنة الغفلة ويصبح فرحا لما أصاب من الفضل والرحمة إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما إليه تشره رغبة فيما يبقى وزهادة فيما يفنى قد قرن العمل بالعلم والعلم بالحلم يظل دائما نشاطه بعيدا كسله قريبا أمله قليلا زلله متوقعا أجله خاشعا قلبه ذاكرا ربه قانعة نفسه عازبا جهله محرزا دينه ميتا داؤه كاظما غيظه صافيا خلقه آمنا من جاره سهلا أمره معدوما كبره ثبتا صبره كثيرا ذكره لا يعمل شيئا من الخير رياء وما يتركه حياء الخير منه مأمول والشر منه مأمون إن كان بين الغافلين كتب في الذاكرين وإن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه قريب معروفه صادق قوله حسن فعله مقبل خيره مدبر شره غائب مكره في الزلازل وقور وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور لا يحيف على من يبغض ولا يأثم فيمن يحب ولا يدعي ما ليس له ولا يجحد ما عليه يعترف بالحق قبل أن يشهد به عليه لا يضيع ما استحفظه ولا ينابز بالألقاب ولا يبغي على أحد ولا يغلبه الحسد ولا يضار بالجار ولا يشمت بالمصاب مؤد للأمانات عامل بالطاعات سريع إلى

٩١

الخيرات بطيء عن المنكرات يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويجتنبه لا يدخل في الأمور بجهل ولا يخرج من الحق بعجز إن صمت لم يعيه الصمت وإن نطق لم يعبه اللفظ وإن ضحك لم يعل به صوته قانع بالذي قدر له لا يجمح به الغيظ ولا يغلبه الهوى ولا يقهره الشح يخالط الناس بعلم ويفارقهم بسلم يتكلم ليغنم ويسأل ليفهم نفسه منه في عناء والناس منه في راحة أراح الناس من نفسه وأتعبها لإخوته إن بغي عليه صبر ليكون الله تعالى هو المنتصر يقتدي بمن سلف من أهل الخير قبله فهو قدوة لمن خلف من طالب البر بعده أولئك عمال لله ومطايا أمره وطاعته وسرج أرضه وبريته أولئك شيعتنا وأحبتنا ومنا ومعنا آها شوقا إليهم فصاح همام بن عبادة صيحة وقع مغشيا عليه فحركوه فإذن هو قد فارق الدنيا رحمة الله عليه فاستعبر الربيع باكيا وقال لأسرع ما أودت موعظتك يا أمير المؤمنين بابن أخي ولوددت أني بمكانه فقال أمير المؤمنين عليهم السلام هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها أما والله لقد كنت أخافها عليه فقال له قائل فما بالك أنت يا أمير المؤمنين فقال ويحك إن لكل واحد أجلا لا يعدوه وسببا لن يتجاوزه فلا تعد بها فإنما ينفثها على لسانك الشيطان قال فصلى عليه أمير المؤمنين عليهم السلام عشية ذلك اليوم وشهد جنازته ونحن معه.

قال الراوي عن نوف فصرت إلى الربيع بن خيثم فذكرت له ما حدثني نوف فبكى الربيع حتى كادت نفسه أن تقبض وقال صدق أخي إن موعظة أمير المؤمنين عليهم السلام وكلامه ذلك مني بمرأى ومسمع ما ذكرت ما كان من همام بن عبادة يومئذ وأتاني هنيئة إلا كدرها ولا شدة إلا فرجها (١).

_________________

(١) هذه الخطبة رواها ابن شعبة الحرّانيّ في تحف العقول صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٠٧ = ١ ٠٩ وسليم بن قيس الهلالي في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦٠ = ١ ٦٤ ، وأبو جعفر الكليني في أصول الكافي م ٢ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٢٦ = ٢٣٠ وسبط ابن الجوزي في التذكرة صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٣٨ = ١ ٣٩ وفي نهج البلاغة ، وغيرهم ، انظر كتابنا مصادر نهج البلاغة صلى الله عليه وآله وسلم ٢١ ٢.

٩٢

فصل :

من كلام أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم في الإخوان وآداب الإخوة.

في الإيمان الناس إخوان فمن كانت إخوانه في غير ذات الله فهي عداوة وذلك قوله عزوجل

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) : الزخرف : ٦٧

من قلب الإخوان عرف جواهر الرجال.

أمحض أخاك بالنصيحة حسنة كانت أم قبيحة ساعده على كل حال وزل معه حيث زال لا تطلبن منه المجازاة فإنها من شيم الدناة ابذل لصديقك كل المودة ولا تبذل له كل الطمأنينة.

وأعطه كل المواساة ولا تفض إليه بكل الأسرار توفى الحكمة حقها والصديق واجبه لا يكون أخوك أقوى منك على مودته.

البشاشة فخ المودة والمودة قرابة مستفادة لا يفسدك الظن على صديق أصلحه لك اليقين كفى بك أدبا لنفسك ما كرهته لغيرك لأخيك عليك مثل الذي لك عليه لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من ضيعت حقه.

ولا يكن أهلك أشقى الناس بك اقبل عذر أخيك وإن لم يكن له عذر فالتمس له عذرا.

لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته لا ترغبن فيمن زهد فيك ولا تزهدن فيمن رغب فيك إذا كان للمخالطة موضع.

لا تكثرن العتاب فإنه يورث الضغينة ويجر إلى البغيضة وكثرته من سوء الأدب ارحم أخاك وإن عصاك وصله وإن جفاك.

احتمل زلة وليك لوقت وثبة عدوك من وعظ أخاه سرا فقد زانه ومن وعظه علانية فقد شانه.

٩٣

من كرم المرء بكاه على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه وحفظه قديم إخوانه

فصل مما جاء نظما في الإخوان

روي أن الصادق جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام كان يتمثل كثيرا بهذين البيتين :

أخوك الذي لو جئت بالسيف عامدا

لتضربه لم يستغشك في الود

ولو جئته تدعوه للموت لم يكن

يردك إبقاء عليك من الود

وقال مسلم بن وابصة : (١)

أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه

كأن به من كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصدر لا باسطا أذى

ولا مانعا خيرا ولا قائلا هجرا

إذا ما أتت من صاحب لك زلة

فكن أنت محتالا لزلته عذرا

غنى النفس ما يكفيك من سد خلة

فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا

لغيره :

إذا جمع الفتى حسبا ودينا

فلا تعدل به أبدا قرينا

ولا تسمح بحظك منه بل كن

بحظك من مودته ظنينا

لآخر :

وكنت إذا الصديق أراد غيظي

وأشرقني على حنق بريقي

غفرت ذنوبه وصفحت عنه

مخافة أن أعيش بلا صديق (٢)

ولآخر :

ومن لا يغمض عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهدا كل عثرة

يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب (٣)

_________________

(١) هو سالم بن وابصة الأسدي لا مسلم بن وابصة ، وهو شاعر إسلامي تابعي ، وأبوه وابصة بن سعيد صحابي جليل ، ولسالم بن وابصة مقطعات شعرية في حماسة أبي تمام.

(٢) رواهما ابن قتيبة في عيون الأخبار ج ٧ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦ باختلاف كبير.

(٣) في النسخة نقصان وتشويش ، وقد صححنا البيتين عن الموشى للوشاء ، وعن محاضرات الأدباء للأصفهاني وفي عيون الأخبار ج ٧ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٦ وهما لكثير.

٩٤

وقال إياس بن الفائق : (١)

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم

وترمي النوى بالمقترين المراميا

فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا

كفى بالممات فرقة وتنائيا

إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها

فقدت صديقي والبلاد كما هيا

وقال حاتم بن عبد الله: (٢)

وما أنا بالساعي بفضل زمامها

لتشرب ما في الحوض قبل الركائب

وما أنا بالطاوي حقيقة (٣) رحلها

لأبعثها حقا وأترك صاحبي

لبعضهم

بدا حين أثرى بإخوانه

ففتك عنهم شباه العدم

وذكرهم الحزم غب الأمور

فبادر قبل انتقال النعم

لغيره

ألا إن عبد الله لما حوى الغنى

وصار له من بين إخوانه مال

رأى خلة منهم يسد بماله

فساواهم حتى استوت بهم الحال

لموسى بن يقطين

تتبع إخوانه في البلاد

فأغنى المقل عن المكثر

ولسليمان بن فلاح

لي صديق ما مسني عدم

مذ وقعت عينه على عدم

قام بعذري لما قعدت به

ونمت عن حاجتي ولم ينم

أغنى وأقنى ولم يسم كرما

يقبل كف له ولا قدم

_________________

(١) هذه الأبيات من شعر حماسة أبي تمام ولم أجد لإياس هذا ترجمة.

(٢) هو حاتم بن عبد اللّه الطائي من أجواد العرب وقد أصبح بجوده مضرب المثل والبيتان من قصيدة أولهاو

مرقبة دون السماء علوتها

أقلب طرفي في فضاء السباسب

(٣) في ديوان حاتم (حقيبة) وهو الأرجح.

٩٥

لبشار بن برد ويكنى أبا معاذ ويلقب بالمرعث الداعمي. (١)

إذا كنت في كل الأمور معاتبا

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فإنه

مفارق ذنب مرة ومجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

لزياد الأعجم (٢)

أخ لك لا تراه الدهر إلا

على العلات بساما جوادا

أخ لك ليس خلته بمذق

إذا ما ماد فقر أخيه عادا

 وله (٣)

إذا كان ذواقا أخوك من الهوى

موجهة في كل فج مذاهبه

فخل له وجه الطريق ولا تكن

مطية رحال كثير مذاهبه

تخاف المنايا أن ترحل صاحبي

كأن المنايا في المقام تناسبه

ولبشار أيضا

خير إخوانك المشارك في المر

وأين الشريك في المر أينا

الذي إن شهدت سرك في الناس

وإن غبت كان أذنا وعينا

مثل سر العقيان إن مسه النار

جلاه البلا فازداد زينا

_________________

(١) هو بشار بن برد مولى بني عقيل وقيل بل لبني سدوس ويكنى أبا معاذ ، ويلقب بالمرعث ، والمرعث هو الذي جعل في أذنيه الرعاث وهي الأقراط ، ولا أعرف سبب نسبته إلى الداعمي ، وهو من فحول الشعراء الإسلاميين ، ومن أشعر المحدثين طبعا واسترسالا وعمقا ، أتهم بالزندقة ، وقتل على ذلك سنة ١ ٦٧ / ١ ٦٨ ه ويشك في صحة هذه التهمة الموجهة ، والأرجح أنّها سياسية لا عقائدية وخاصّة بعد قوله.

إن في البعث والحساب لشغلا

عن وقوف برسم دار محيل

تجد أخباره في كتب الأدب والتاريخ كالأغاني ومعاهد التنصيص وسواهما.

(٢) هو زياد بن جابر بن عمرو مولى عبد القيس ، كان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه فقيل الأعجم ، أصله ومولد ومنشأه أصبهان ، ومات بخراسان ، أحد الشعراء المجيدين في عهد بني أميّة ، وله مدائح جياد في المهلب بن أبي صفرة ، أخباره موجودة في الأغاني ج ١ ٤ والشعر والشعراء لابن قتيبة.

(٣) كذا في النسخة وهنا سقوط كلمة (وأيضا) أو كلمة لغيره).

٩٦

وأنشدت لابن نعمة الخطيب مما قاله في مجلس ابن خالويه (١)

أيها العالم الذي ملأ الأرض علمه

قلت لما جرحت قلبي بحال تغمه

لا يفر الحوار أن يتوطاه أمه

ولعمري لضمه كان أحلى وشمه

لا تهجم (٣) على الصديق بشيء يغمه

فإذا أحوج (٣) الشجاع (٤) بدا منه سمه

قال وأنشد لغيره

لا (٥) توردن على الصديق من

الدعاية ما يغمه

واحذر بوادر طيشه

يوما إذا ما طال حلمه

فالعجل تنطحه على

إدمان مس الضرع أمه

_________________

(١) هو أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن خالدية من شيوخ العربية البارزين ، دخل بغداد وأخذ من علمائها كابن الأنباري وابن عمر والزاهد وابن دريد والسيرافي وانتقل إلى حلب ولزم سيف الدولة الحمداني ، وهو من علماء الشيعة ومؤلّفاته كثيرة منها : (كتاب ليس) وهو مبني على أنه ليس في كلام العرب كذا و (كتاب الآل) وعرض فيه للأئمة الاثني عشر ومواليدهم ووفياتهم ، وكتاب في إمامة عليّ عليه السلام و (شرح مقصودة ابن دريد) ، وأورد السيّد ابن طاوس في كتاب الإقبال دعاء عن ابن خالدية في أعمال شهر شعبان عن عليّ عليه السلام.

قال : كان أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) يدعون به في شهر شعبان.

وتوفي في حلب سنة (٣٧٠ ه)

وله شعر منه قوله :

إذا لم يكن صدر المجالس سيد

فلا خير فيمن صدرته المجالس

 وكم قائل ما لي رأيتك راجلا

فقلت له من أجل أنك فارس

(٢) هكذا في النسخة والوزن معها غير مستقيم ولعله (لا تهجمن).

(٣) هكذا في النسخة والمعنى معها قلق ولعله في الأصل (أحرج) بدل أحوج.

(٤) الشجاع هو ذكر الحية.

(٥) ليس في الأصل كلمة (لا) وقد وضعناها ليستقيم الوزن والمعنى.

٩٧

فصل آخر في ذكر الإخوة والإخوان

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إذا آخى أحدكم رجلا فليسأله عن اسمه واسم أبيه وقبيلته ومنزله فإنه من واجب الحق وصافي الإخاء وإلا فهو مودة حمقاء.

وروي أن داود قال لابنه سليمان عليهم السلام يا بني لا تستدلن بأخ أخا مستفادا ما استقام لك ولا تستقلن أن يكون لك عدو واحد ولا تستكثرن أن يكون لك ألف صديق.

وأنشد لأمير المؤمنين ع :

وليس كثيرا ألف خل وصاحب

وإن عدوا واحدا لكثير

وروي أن سليمان عليهم السلام قال

لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا من يصاحب فإنما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه وينسب إلى أصحابه وإخوانه.

وروي أنه كانت بين الحسن والحسين صلى الله عليه وآله وسلم وحشة فقيل للحسين عليهم السلام لم لا تدخل على أخيك وهو أسن منك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أيما اثنان جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضا صاحبه كان سابقا له إلى الجنة فأكره أن (١) أسبق أبا محمد إلى الجنة فبلغ ذلك (٢) الحسن عليهم السلام فقام يجر رداءه حتى دخل على الحسين صلى الله عليه وآله وسلم فاسترضاه.

حدثني الشريف أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن الحسين بن طاهر الحسيني رحمه‌الله وكتب لي بخطه قال حدثنا عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي قال أخبرنا أحمد بن محمد بن رباح قال حدثنا محمد بن العباس الحسيني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني عن صفوان الجمال قال وقع بين أبي عبد

_________________

(١) في النسخة إذا فصوبناها (أن).

(٢) في النسخة زيادة (إلى) والأصوب حذفها.

٩٨

الله جعفر بن محمد عليهم السلام وبين عبد الله بن الحسن بن الحسين كلام حتى ارتفع الضوضاء واجتمع الناس عليهما فتفرقا عشيتهما تلك ثم غدوت في حاجة لي فإذا أنا بأبي عبد الله جعفر بن محمد عليهم السلام على باب عبد الله بن الحسن وهو يقول يا جارية قولي لأبي محمد هذا جعفر بالباب قال فخرج عبد الله فقال يا أبا عبد الله ما بكر بك فقال أبو عبد الله عليهم السلام إني ذكرت آية من كتاب الله البارحة فأقلقتني قال وما هي فقال قول الله عزوجل

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) الرعد : ٢١.

فقال عبد الله صدقت والله يا أبا عبد الله كأني لم أقرأ هذه الآية قط.

وروي في الكامل أن عبد الله بن علي بن جعفر بن أبي طالب افتقد صديقا له من مجلسه ثم جاءه فقال أين كانت غيبتك قال خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي فقال له إن لم تجد من صحبة الرجال بدا فعليك بصحبة من إن صحبته زانك وإن خفقت له صانك وإن احتجت إليه أعانك (١) وإن رأى منك خلة سدها أو حسنة عدها أو وعدك لم يحرضك وإن كثرت عليه لم يرفضك وإن سألته أعطاك وإن أمسكت عنه ابتدأك.

وقال بعضهم.

قارب إخوانك في لقائهم تسلم من بوائقهم.

وفي كتب الهند :

ثق بذي العقل والكرم واطمئن إليه وواصل غير ذي الكرم واحترس من سيئ أخلاقه وانتفع بعقله وواصل الكريم غير العاقل وانتفع بكرمه وأنفعه بعقلك واهرب من اللئيم الأحمق.

وقال آخر :

_________________

(١) في النسخة مكان كلمة أعانك (مانك).

٩٩

دع مصارعة أخيك وإن حث التراب في فيك.

وقيل :

إياك وطاعة الأسفال فإنه يهجم بصاحبه على مكروه وإذا صفا لك أخ فكن به أشد ضنا منك بنفائس أموالك ثم لا يزهدنك فيه إن ترى منه خلقا تكرهه فإن نفسك التي هي أخص الأنفس بك لا تطيعك كالمقادة في كل ما تهوى فكيف تلتمس ذلك من غيرك وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره فقد قالت العرب من لك يوما بأخيك كله.

ووصف أعرابي رجلا فقال :

كان والله يتحسى مرارة الإخوان ويسقيهم عذبه.

وقيل لخالد بن صفوان أي الإخوان أحب إليك فقال الذي يغفر زللي ويقبل عللي ويسد خللي.

وسئل رجل عن صديقين له فقال

أما أحدهما فعلق (٢) مصيبة لا تباع وأما الآخر فعلق مصيبة لا تبتاع.

وكان آخر يقول :

اللهم احفظني من الصديق فقيل له ولم قال لأني من العدو متحرز ومن الصديق آمن وأنشد :

احذر مودة ماذق (٣)

شاب المرارة بالحلاوة

يحصي العيوب عليك

أيام الصداقة للعداوة

وقيل لبعضهم كم لك من صديق فقال لا أدري لأن الدنيا علي مقبلة فكل من يلقاني يظهر لي الصداقة وإنما أحصيهم إذا ولت عني.

_________________

(١) هو خالد بن صفوان بن عبد اللّه بن الأهتم من الخطباء البلغاء وهو معدود في البخلاء توفي في عهد السفاح سنة ١ ٣٢ ه = ٧٥٠ م.

(٢) هو النفيس من كل شيء ، وهو القطعة أيضا.

(٣) هو من كان وده غير خالص.

١٠٠